* د/ ابتهاج الكمال:
مع برودة فصل الشتاء ونزلة البرد التي داهمتني، أجد نفسي أعود دائمًا إلى العلاج المنزلي البسيط، ذلك العلاج الذي كان حاضرًا في كل بيت ولا يخلو منه . عبوة “الفكس” الصغيرة، برائحتها النفاذة وتأثيرها السحري، كانت رمزًا للرعاية والاهتمام، بل أشبه بطقس مقدس تمارسه الأمهات و الجدات بحب لا يُضاهى.
أتذكر إحدى الليالي الباردة في طفولتي، عندما أرهقني البرد وأثقل أنفاسي. جدتي، بحنانها الذي يفوق حدود الكلمات، لم تلجأ إلى وصفة أخرى سوى “الفكس”، وكأنه حليفها الذي لا يخيب. كانت تدفئ يديها أولًا لتخفف قسوة البرد عني، ثم تبدأ بدهنه على صدري برفقٍ يشبه طمأنة الأم لطفلها، ثم تنتقل إلى ظهري، وأخيرًا تدهن القليل منه تحت أنفي. كنت أتابع حركاتها بامتنان صامت، بينما هي تهمس: “هذا سيجعل التنفس أسهل، وستنامين كالملائكة.”
لكنها لم تتوقف عند ذلك. بحكمتها المعتادة، أكملت طقوسها بدهن قدميَّ بطبقة سخية من المرهم، ثم لفتهما بجوارب ، وهي تقول بنبرة واثقة: “غدًا ستستيقظين وكأن البرد لم يمسكِ.” وفي لحظة عناية أخيرة، تناولت إصبع “الفكس” للاستنشاق ووضعته أمام أنفي برفق، قائلة: “تنفسي،هذا سيفتح كل الطرق المغلقة.”
أذكر بوضوح أنني شعرت وكأنها عازمة على تغميس جسدي بالكامل في “الفكس” لتضمن شفائي! وبينما كنت أغرق وسط رائحه المنثول القوي، شعرت أن الشفاء الحقيقي لم يكن في الدواء، بل في حبها الذي يتجلى في كل لمسة وكل كلمة.
في صباح اليوم التالي، كنت أفضل حالًا، لكن ما بقي محفورًا في قلبي لم يكن زوال السعال أو الاحتقان، بل حنان جدتي الذي غمرني بدفء لا يمكن أن يمنحه أي دواء.
اليوم، رغم علمي بالتطور الطبي وخياراته الواسعة، يظل “الفكس” هو خط الدفاع الاول للبرد وذكرى لتلك الليالي التي علمتني أن الشفاء لا يأتي من الأدوية فقط، بل من القلوب التي تنبض بالحب والحنان.
* وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل السابقة
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news