في بلد يعصف به الصراع والانهيار الاقتصادي، يجد موظفو الدولة النازحون أنفسهم في قلب معاناة مزدوجة، تتداخل فيها قسوة النزوح مع تجاهل الجهات المسؤولة عن إنصافهم، الأمر الذي جعلهم يعيشون اليوم أزمة إنسانية غير مسبوقة، بعد أن وجدوا أنفسهم عالقين بين بطش الميليشيات الحوثية وإهمال الحكومة الشرعية.
فمنذ توقف رواتبهم في عام 2017، تحول هؤلاء الموظفون إلى ضحايا لأزمة إنسانية متفاقمة، تبدأ من البطش الحوثي ولا تنتهي عند الإهمال الحكومي في المناطق المحررة.
وعلى الرغم من التضحيات الجسيمة التي قدموها للحفاظ على كرامتهم، ألا أن حلمهم في استعادة حقوقهم يبدو بانه ما يزال بعيد المنال، حيث أصبحت اليوم أوضاع هذه الشريحة التي كانت تمثل عماد الدولة ومؤسساتها خلال فترات الاستقرار، تعكس صورة قاتمة عن تحديات النزوح،
فهم في مواجهة مباشرة مع عراقيل بيروقراطية وغيابًا للعدالة الاجتماعية، نتيجة تأخير صرف رواتبهم، وفرض شروط تعجيزية، ونظرة عدائية من بعض الجهات، ما يضعهم أمام خيارات مأساوية تهدد أمنهم الاقتصادي والاجتماعي.
ويمثل ملف موظفي الدولة النازحين أزمة إنسانية ملحة تتطلب استجابة حكومية عاجلة، فاستمرار الإهمال تجاه هذه الشريحة يهدد بتفاقم الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، ويُفقد الحكومة الشرعية ما تبقى من مصداقيتها أمام الشعب والمجتمع الدولي.
نزوح مُرّ
في أحد أحياء العاصمة المؤقتة عدن، يعيش إبراهيم عبدالله سالم، مدرس مادة الاجتماعيات، حياة تكاد تختفي فيها ملامح الكرامة، بعد أن نزح من محافظة الحديدة عام 2018 هربًا من بطش مليشيا الحوثي، تاركًا وراءه ذكرياته وبيته الذي كان ملاذًا لعائلته.
لم يكن النزوح بالنسبة للأستاذ إبراهيم وآلاف الموظفين النازحين خيارًا، بل كان ضرورة فرضتها ظروف قاسية، حيث توقفت المرتبات وتحول المطالبون بها إلى ضحايا للاعتقال أو الإرسال إلى جبهات القتال.
يقول إبراهيم في تصريح خاص لـ "المصدر أونلاين": "نزحت مع أطفالي بحثًا عن لقمة عيش تحفظ لنا رمق الحياة، وكنا نظن أن النزوح سيكون بداية جديدة، لكنه كان بداية لمعاناة من نوع آخر".
وفي عدن، بدأ إبراهيم رحلته مع الديون والجوع، حيث طرق أبواب وزارة التربية لترتيب وضعه، وتم إدراجه في كشوفات المجموعة السادسة عام 2020، إلا أنه اصطدم بقرار وزارة المالية التي رفضت اعتماد هذه الكشوفات بحجة عدم وجود ميزانية.
يعمل إبراهيم صباحًا كمدرس، وفي المساء كحارس للمدرسة مقابل عشرة آلاف ريال فقط، ويصف حاله قائلاً: "كنت أغسل الصحون في مطعم خلال الإجازات الصيفية لتأمين لقمة العيش لأولادي، شعرت أنني فقدت ذاتي".
ورغم المعاناة التي أثقلت كاهله، لم يسمح إبراهيم لليأس بأن يسيطر عليه، فقبل العمل كمدرس متطوع في مدرسة ابن سيناء بمديرية التواهي، وهناك مدت له مديرة المدرسة، رحيمة طربوش، وزميلاته المدرسات يد العون، مانحات إياه الدعم المادي والمعنوي، حيث ساعدنه في دفع إيجار منزله، حيث يقول إبراهيم بامتنان: "لولا وقوفهن بجانبي، لما تمكنت من الصمود حتى اليوم".
ومع كل صبره وصموده، لم تُمحَ آثار النزوح وانقطاع الراتب من حياة إبراهيم، حيث يقول بصوت يختنقه الحزن: "الحياة بلا راتب أشبه بالموت البطيء"، محاولًا إخفاء ألمه خلف ابتسامة متعبة.
إبراهيم، الذي كان حلمه يومًا تعليم الأطفال، وجد نفسه اليوم أمام معركة أكبر هي "تعليم أطفاله كيف يصمدون في وجه شبح الجوع"، ويختتم رسالته الحزينة قائلاً: "إلى الحكومة والمنظمات، نحن النازحون لسنا مجرد أرقام على الورق... نحن بشر نستحق أن نعيش بكرامة".
وبين معاناة النزوح وضغوط الحياة، تستمر قصة إبراهيم كمرآة تعكس مأساة آلاف الموظفين النازحين اليمنيين الذين يواصلون النضال، ليس فقط من أجل البقاء، بل من أجل كرامتهم.
إهمال وتعسف حكومي
رغم عدم وجود إحصائية دقيقة للموظفين النازحين، إلا أن مصادر رسمية تُقدّر أن نحو 90 ألف موظف وموظفة سلموا ملفاتهم للجهات الحكومية في عدن والمحافظات المحررة للحصول على مرتباتهم، ورغم ذلك، لم يتمكن سوى 30 ألفًا منهم من استعادة رواتبهم، بينما يواجه البقية عراقيل بيروقراطية وإهمالاً واضحًا.
يقول رئيس ملتقى الموظفين النازحين، محمد العزيزي، إن النزوح لم يكن خيارًا سهلاً، فقد تنوعت أسبابه بين الفرار من بطش الحوثيين والزج بالبعض في السجون أو الجبهات، إلى الهروب من الجوع بعد أن صادرت الميليشيات رواتبهم وفرضت عليهم العمل دون أجر.
ويضيف العزيزي لـ "المصدر أونلاين" أنه رغم انتقالهم إلى مناطق الشرعية، إلا أن معاناتهم كموظفين نازحين لم تنتهِ، فقد تعرضوا لتسويف وإجراءات تعسفية من قبل وزارتي الخدمة المدنية والمالية، مثل تأخير صرف الرواتب لعدة أشهر، وفرض شروط تعجيزية على صرفها، وإغلاق ملفات النازحين منذ عام 2018.
ويشير إلى أن هذا التسويف والإجراءات التعسفية والتجاهل الحكومي أجبر العديد منهم على العودة إلى الأرياف أو العمل في مهن شاقة كالباعة المتجولين وعمال البناء لتأمين قوت يومهم، في حين يعانون من غلاء المعيشة وارتفاع الإيجارات في مناطق النزوح.
ويؤكد العزيزي أنهم يسعون عبر "ملتقى الموظفين النازحين" للمطالبة بحقوقهم المكتسبة التي يكفلها القانون والدستور، والتي تشمل صرف المرتبات شهريًا دون قيد أو شرط، وتمكينهم من العمل في مؤسساتهم التي نزحوا إليها.
وتطرق العزيزي إلى أن من ضمن مطالبهم الرئيسية صرف علاواتهم السنوية وزيادات غلاء المعيشة التي حُرموا منها منذ عام 2018، إضافة إلى توفير بدل سكن وانتقال لتعويض معاناتهم، وإنشاء وحدة تنفيذية خاصة لإدارة ملف الموظفين النازحين بعيدًا عن تسلط الوزارات.
وأوضح أن معالجة قضيتهم اليوم ليست مجرد التزام قانوني، بل هي واجب وطني وأخلاقي لإنصاف شريحة كانت ولا تزال تمثل العمود الفقري للدولة ومؤسساتها في فترات الاستقرار، وأن التصدي لهذه الأزمة هو ضرورة لإعادة الأمل وتعزيز الثقة في المؤسسات الشرعية، والحفاظ على النسيج الاجتماعي المتداعي.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news