تُبحر مجموعة “جلوسًا على العين.. أو وقوفًا” في عوالم إنسانية شديدة التناقض والتشابك، حيث يتراقص الحزن والفرح على إيقاع اللغة المرهفة. أوراس الإرياني يمزج بين عفوية التفاصيل اليومية وعمق التجربة الوجودية، مانحًا النصوص حياة خاصة تنبض بروح شاعر يدرك هشاشة العالم لكنه يأبى الاستسلام.
رؤية فنية وشعرية
يتعامل أوراس الإرياني مع الحزن بوصفه مادة إبداعية تسائل القارئ وتدعوه للتأمل. يظهر هذا في قصيدته “الحزن طلاء الغرفة” حيث يقول:
الحزن طلاءُ الغرفةِ
طفلٌ يركض حافيًا
دهستْهُ دمعة!
في هذه الصورة المكثفة، يتحول الحزن إلى كائن حي يتداخل مع أبسط التفاصيل الحياتية، مما يعكس قوة التلاعب بالمجاز في بناء عوالمه الشعرية.
اللغة والتشكيل البصري
تتميز نصوص المجموعة بأسلوب بصري أقرب إلى السينما، حيث يترجم الشاعر الكلمة إلى صورة نابضة بالحركة. على سبيل المثال، في قصيدته “شقوق”، يقول:
للحزنِ ظِلٌّ يرُدُّ على أسئلةِ الأطفال والمقاهي
لا يلتفت للوراء
لا يسقُط على الأرض
يلمُّ ملامحَ الناسِ في قلوبهم.
هذا النص يعكس براعة الشاعر في تحويل مشاعر مجردة كالحزن إلى كيان ملموس، حاضر في كل تفاصيل الحياة اليومية، بينما يحاكي القارئ بصريًا ووجدانيًا.
التجريب والتنوع
يتنقل الشاعر بين أساليب مختلفة، من النثر الشعري إلى السرد الشعري، ومن الفكرة المجردة إلى التفاصيل اليومية الحميمة. في نص “تقريبًا”، يصف نفسه:
أنا رجلٌ عاديٌّ
صديقٌ عاديٌّ
أخٌ وحبيبٌ عادي…
رجل عادي
أكتب القصائد لامرأة
طلبت مني قتل فأر.
بأسلوب يجمع بين العبث والسخرية، ينزع الإرياني عن نفسه هالة الشاعر المتعالي، ويمنح نصوصه طابعًا إنسانيًا حميمًا.
التيمة المركزية: الحرب والإنسان
المجموعة تُعرّي الحرب وتأثيراتها ليس فقط كحدث سياسي، بل كواقع يتسرب إلى تفاصيل الحياة اليومية. في قصيدة “نوم الشوارع”، يقول:
في كل عام جديد
أتمنى لنا السعادة
وأخنق الأحزان
التي صارت أعناقنا.
هنا، يتحدث الشاعر عن الحرب كخلفية صامتة، تطفو على السطح لتُذكرنا باستمرار الفقد والدمار. بينما في “بُقَع سوداء”، يُختزل الألم في مقطع مذهل:
قبر
قبران
ثلاثة
مقبرة
لا تنتهي الحرب بالنصر
ولا بالهزيمة.
إيقاع التجربة الوجودية
تلتقط نصوص المجموعة نبض الحياة، متأرجحة بين الحنين والنقد. في نص “كريتر”، ينسج الشاعر حكايات طفولته في المدينة قائلاً:
نشرب قلصين ليم بارد ونتجه إلى سوق الذهب،
وبعدها إلى آخر شارع يفصلنا عن حافة القاضي،
أو إلى الحياة.
هنا، يجعل من ذاكرة المكان نافذةً لفهم هويته وشغفه بالماضي، بأسلوب سردي يمزج بين الحنين والدقة في استحضار التفاصيل.
الختام: الجمال كسبيل للنجاة
أوراس الإرياني يجعل من الجمال درعًا يحتمي به من قسوة العالم. قصائد مثل “تعالي” تعكس فلسفة الحياة لديه:
تعالي نُراقِص أحلامنا،
أقدارنا،
لا أسئلة اليومَ،
لا نوافذ،
فكل من حولنا ضائع!
بينما يقدم نص “للمطر قلب” احتفاءً بالشعر ذاته:
عندما وضعت أذني
في قلب المطر
سمعته يتحدث
عن الحرية ويئنّ.
الخاتمة
“جلوسًا على العين.. أو وقوفًا” ليست مجرد مجموعة شعرية، بل هي رحلة تأملية في عوالم النفس والواقع. نصوصها تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتلامس القلوب برهافة وصدق. أوراس الإرياني، بشعره الذي يمزج بين عمق التجربة وبساطة التعبير، يعيد تشكيل ملامح الشعر المعاصر، ويمنح القارئ مرآة يرى فيها ذاته.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news