شهدت الدول العربية، منذ نشأتها في أعقاب حقبة الاستعمار، مسارًا متقلبًا في ترسيخ دعائم الدولة الحديثة، وتراوحت تجاربها بين فترات من النهوض النسبي – حيث قامت الدولة بأدوارها الأساسية – وبين فترات من الفوضى والفشل، مما أثر في مسار تطورها.
وفي حين تسعى بعض الدول العربية إلى ترسيخ نموذج الدولة الحديثة، فإنها تواجه تحديات تختلف عن تلك التي واجهتها الدول الغربية؛ فبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية، تواجه هذه الدول تحديات سياسية وثقافية عميقة، مما يتطلب حلولًا مبتكرة تراعي خصوصية السياق العربي.
وما يغيب أو يتم تغييبه عن قصد في هذا السياق هو أن مفهوم الحقوق، في إطاره الشامل، يشمل الحقوق المدنية والسياسية، إضافةً إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وتُعَدّ المشاركة السياسية، وحرية التعبير، والمساءلة عناصر أساسية في هذا الإطار، وهي حقوق لا تقل أهمية عن الحق في الغذاء والصحة والتعليم.
فيما تسعى بعض الحكومات العربية إلى تبني نماذج إدارية مستوحاة من القطاع الخاص بهدف تحسين الكفاءة والفعالية، إلا أن هذا التوجه يثير تساؤلات حول مدى ملاءمته لطبيعة العمل الحكومي ومدى تأثيره في مفهوم الدولة ودورها في تحقيق التنمية الشاملة.
وكان هذا التحول سيندرج ضمن الخطوات المحمودة والعاكسة للنهوض والتقدم والانتقال إلى مرحلة أرقى في العمل الحكومي – تعتمد الرشاقة المؤسسية وتلتزم بأفضل معايير الحوكمة وتقييم جودة الأداء – لو أن هذه الحكومات مالكة فعلًا لزمام أمرها، وممثلة لكافة الأبعاد التي ينبغي لأي حكومة في الدنيا أن تتضمنها وتحتوي عليها.
أخلص إلى القول بأننا أمام جهود حثيثة تستهدف المزيد من “الإقصاء” لمفهوم الحكومة ودورها ومعناها، بحيث يجري تثبيت مفهوم جديد ينظر إلى الكيان الحكومي بوصفه الجهاز التنفيذي الإداري فقط، والمعني برصد مؤشرات النمو التي تحققت ومقارنتها بمؤشرات الأعوام السابقة.
ويجري التنظير لهذا الوجه الجديد للحكومات في مؤتمرات ومنتديات اقتصادية تتعمد الفصل الحاد بين السياسة والاقتصاد، وتنظر إلى الشعوب بوصفها مجتمعات استهلاكية، وينبغي لها أن تكف عن كونها كيانات ثقافية وحضارية لها مواقفها من الصراعات التي تدور حولها، ولها تطلعاتها ومطالبها.
إن تسخيف السياسة واستبعادها من الخطاب الحكومي، وتحويل المسؤولين الحكوميين إلى مدراء تنفيذيين وإلى موظفين يحملون الآلات الحاسبة ولا ينطقون – إذا ما نطقوا – إلا بالحديث عن مؤشرات النمو، أمر لا يخلو من استبعاد متعمد للسياسة بوصفها صناعة قرارات ودراسة مصالح واتخاذ مواقف أخلاقية فيها القدر الضروري من تحمل المسؤولية التضامنية تجاه الذات وتجاه من يتشارك معها في الهوية الثقافية على مستوى محيطها.
ما أعنيه هو أن استبعاد العمق السياسي والرؤية السياسية وخطابها من مضامين أي حكومة يجعلها ناقصة وعرجاء وغير واعية لنوع آخر من التحديات، كما يجعلها لا تنظر إلا إلى محيطها المحلي، وإذا ما نظرت إلى الإقليم فتراه بوعي المنافس لا الشريك.
وهذا التفتيت للحكومات – التي أصبحت مجرد شركات استثمارية – القصد منه تدمير حس التضامن واستبعاد الخطاب السياسي، ولا أقول الأيديولوجي، في حين أن الخبراء الأجانب الذين يسوّقون لهذا المنظور قادمون من حكومات غربية لها سياساتها المتكاملة ورؤاها التي لا تفوّت صغيرة أو كبيرة. فلها منظورها الإقليمي والدولي، ولها سياساتها الخارجية وتحفظاتها وتحالفاتها التي يتبعها الاقتصاد ويصبح معبرًا عنها، وتستخدمه في عقوباتها لمن لا يتفق معها، كما تستخدم الاقتصاد والمصالح الاقتصادية في مكافأة من يشاركها منظورها السياسي. أي أن دول الخبراء الذين يسوّقون للعناية بالاقتصاد والربح والنمو فقط في بعض دولنا قادمون من دول لا تضع هذا المقياس معيارًا وحيدًا لحكوماتها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news