سبتمبر نت/ تقرير – توفيق الحاج
قدم الأدباء والشعراء اليمنيون جهودا كبيرة وتضحيات خالدة، وكان لهم دور بارز في مقارعة المستعمر البريطاني حتى دحره وخروج آخر جندي من أرض اليمن من خلال تأجيج مشاعر الجماهير الثائرة، وتشكيل وعي وطني مقاوم ورافض، وكان لإبداعاتهم الشعرية والنثرية والأغنية والقصة تأثير عميق.
وبرز خلال مرحلة النضال والكفاح عدد من الأدباء والشعراء والفنانين الأحرار الذين اعتلوا منابر الأدب والفن، ورفعوا أصواتهم عاليا مطالبين برحيل المستعمر البريطاني، وأبرز هؤلاء الشعراء الرواد الشاعر عبدالله هادي سبيت، ومحمد سعيد جرادة، وإدريس حنبلة، وسعيد الشيباني، ولطفي جعفر أمان، وصالح نصيب، بالإضافة إلى شعراء كبار كالشاعر عبدالعزيز المقالح، والشاعر عبدالله البردوني، وشاعر الثورة صالح سحلول، وجميعهم أسهموا بقوة ووقفوا في خنادق النضال والثورة ضد الطغيان والاستعمار من خلال قصائدهم الوطنية المتأججة بالمشاعر الثورية التي بشرّت بالثورة وتحقيق الاستقلال.
وفي ذاكرة الشعر اليمني العديد من القصائد الوطنية التي كان لها حضورها الفاعل في الساحة الوطنية، ولها تأثيرها البالغ في التحريض والتجييش والتعبير عن إرادة الشعب الحرة التواقة إلى نيل الكرامة واستنشاق عبير الحرية وتحقيق الاستقلال.
وبقراءة للموروث الشعري اليمني نجد أن الشعر له حضوره الفاعل في مسيرة الكفاح والنضال الوطني ومواجهة الاستعمار البريطاني من قبل انطلاق ثورة 14 أكتوبر المجيدة وحتى تحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر، ولا تزال تلك القصائد منارة تضيء طريق الأحرار والثوار.
يا شاكي السلاح
لعل أهم قصيدة وطنية حماسية في أدب ثورة الـ14 اكتوبر ضد الوجود البريطاني هي قصيدة (يا شاكي السلاح) للشاعر والملحن الكبير عبدالله هادي سبيت، وهي أغنية وطنية تغنى بها الكثير من الفنانين أمثال فضل محمد اللحجي وأحمد يوسف الزبيدي ومحمد صالح حمدون وحسن محمد عطا.
يقول الشاعر سبيت مخاطبا أحرار جنوب الوطن:
يا شاكي السلاح شوف الفجر لاح
حط يدك على المدفع زمان الذل راح
هذا الغير سيد واحنا له عبيد..
يامن مات والله انه من القهر استراح..
هذا الماء سال هذا الغصن مال..
هذا الزهر يتبسم على ضوء الصباح..
أرضي والنبي ويل الأجنبي..
ديني ومذهبي يأمرني أن أحمل سلاح..
يدك يا أخي يدك يا سخي..
كم لك كم على جسمي وجسمك من جراح..
إيمانك سلاح ضامن بالنجاح..
لا تحيا على الأيام مقصوص الجناح..
إن صاح النفير كم حر الضمير..
بايمشي مع الموكب على إذلاق الرماح..
باتلقى السماء في لون الدماء..
يوم الدم يطير ملأ هذى البطاح..
يالله الشباب آن الاكتتاب..
أرضك ملك لك والمغتصب حتما يزاح..
يالله للأمام بانحمى السلام..
يالله نشعل الثورة كفى من قول آح..
هذه القصيدة الوطنية الحماسية المغناة خاطبت الجماهير والثوار والأحرار بلغة بسيطة هادفة وموجهة، وكشفت أبياتها معاناة اليمنيين من بطش المستعمر وظلمه ووصولهم مرحلة لا يمكن تحملها كما يقول الشاعر: (كفى من قول: آح).
لقد كانت هذه القصيدة المغناة تبث من إذاعة صوت العرب، وكان لها وقع وأثر كبير في نفوس اليمنيين في الشطر الشمالي والجنوبي على حد سواء، كان يستمتع الأحرار بسماعها، وتعطيهم دفعة معنوية كبيرة تجعلهم يستبسلون في وجه المحتل.
أبدع الشاعر سبيت عددا من القصائد الثورية التي كشفت وجه المحتل، وفضحت ممارساته ونواياه، ودفعت الجماهير للثورة، فلم تكن قصيدة (شاكي السلاح) وحدها المؤثرة، بل كان هناك قصائد أخرى وضح فيها الشاعر سبيت أهداف المستعمر الخبيثة وضرورة طرده من أرض الأحرار.. يقول في إحدى قصائده:
أيها القانع بالعيش القليل
آه لو تعلم ما قصد الدخيل
لتحصنت بماضيك الجليل
وتخطيت حدود المستحيل
ياطريد الدهر من كل البقاع
حظك اليوم ضياع في ضياع
سترى نفسك في يوم النزاع
ساعة الروع وقودا للصراع
لقد خاطب الشاعر أخيه اليمني خطابا صريحا بأسلوب شاعري صادق، ونكاد نلمس صدق مشاعره، ونبل أهدافه ووطنيته من خلال كلماته التي تعلق في الأذهان من أول وهلة نظرا لحرارة المشاعر المتدفقة فيها.
وعبر قصائده ظل سبيت يدعو إلى المقاومة ومحو معالم الاستعمار يقول:
يا رجالاً تقدموا *** موكب الزهو والفخار
اشعلوها حميَّة *** تسحق العار والشنار
واسمعوا الدهر صرخة *** تصرع الليل بالنهار
وافهموا الغير إننا *** قد بدأنا ولا اصطبار
ايقظونا بظلمهم *** فشعرنا، ولا قرار
إن طلبنا حقوقنا *** صمت الغير في احتقار
اسمعوه فانه *** الف السمع بالرصاص
واخبروه بأنها *** قد دنت ساعة القصاص
قد طلبنا حقوقنا *** فإليها ولا مناص
وجمعنا صفوفنا *** وبدأنا فلا انتكاص
وطلعنا على الدنا *** أمةً تطلب الخلاص
كتب الله ذلة *** كتب الله لا مناص
لقد كان هذا الصوت الشعري الهادر ينطلق كالحمم والقذائف الخارقة ويرعد بأصدق وأروع المفردات الوطنية فتنقض الجماهير والأحرار على جنود المحتل ومواقعه يمزقونهم ويرعبونهم ويحيلون حياتهم جحيم.
بلادي حرة
لم يكن سبيت وحده من يوقد الثورة ويشعل لهيبها شعرا، بل كان للشاعر الكبير لطفي جعفر أمان مكانة بارزة في تاريخ الثورة الاكتوبرية، ولعل قصيدته بلادي حرة أروع ما أنتجه، حيث سارت على كل لسان ورددتها الجماهير والأحرار وفي ذلك يقول عبد العزيز المقالح: “عندما اكتملت الثورة، وتحقق لها النصر في الـ30 من نوفمبر 1967م، كان الشعر حاضراً ليسجل بحروف من نور خروج آخر جندي بريطاني، وعودة الأرض اليمنية إلى طهارتها المفقودة.. لقد صدق وعد الثورة، وصدق معها وعد الشعر، وتحقق الحلم اليمني وفي ذلك الموقف الجليل خرج الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان ليعلن للعالم، بأن بلاده صارت حرة، ولم يعد على أرضها الطيبة من يدنس طهارة التراب يقول:
على أرضنا بعد طول الكفاح
تجلى الصباح لأول مره
وطار الفضاء طليقاً رحيباً
بأجنحة النور ينساب ثره
وقبلت الشمس سمر الجباه
وقد عقدوا النصر من بعد ثوره
وغنى لنا مهرجان الزمان
بأعياد ثورتنا المستقره
واقبل يزهو ربيع الخلود
وموكب ثورتنا الضخم إثره
تزين أكليله ألف زهرة
وينشر من دمنا الحر عطره
ويرسم فوق اللواء الخفوق
حروفاً تضيء.. لأول مره
بلادي حرة
إن الشاعر أمان في هذه القصيدة يغني للوجود صبيحة الاستقلال، ويرتل الدنيا شعراً يكاد يطير؛ شعراً أفاق على الوجود حراً طليقاً «لأول مرة» كما يقول، غناه وأبدعه لشعب أفاق هو الآخر حراً طليقاً «لأول مرة» منذ 128 عاما من الكفاح والزنازين والمقاومة والموت، وتجلى الصباح «لأول مرة»، وطار الفضاء وامتد وامتلك أجنحة، وقبَّلت الشمس الجباه، وأضاءت الحروف لأول مرة.
لقد خلد التاريخ هذه القصائد التي تسجل وتدون مرحلة عظيمة من مراحل النضال الوطني ضد الوجود الأجنبي.
وللشاعر أمان قصيدة أخرى مغناه بعنوان (أخي كبلوني)، ولهذه القصيدة الوطنية أثر بالغ أذكت الروح القتالية لدحر الغزاة، وهي قصيدة مبكرة طليعية ظهرت في العام 1954م، وتعود عوامل وأسباب كتابة هذه القصيدة المغناة إلى وقوع حادث تمثل في تقديم المناضل الفقيد عبدالله عبدالرزاق بأديب للمحاكمة الشهيرة وخروج الجماهير في عدن إلى ساحة المحاكمة غاضبة من تصرف المستعمر، وفي هذه اللحظة لم يسع شاعر موهوب وكبير بحجم الشاعر لطفي جعفر أمان إلا أن أطلق شعراً غنائياً على لسان الفقيد بأديب المشهورة بعنوان بـ(أخي كبلوني) ونقتبس منها الأبيات التالية:
أخي كبلوني
وغل لساني واتهموني
بأني تعاليت في عفتي
ووزعت روحي على تربتي
وخنقت أنفاسهم قبضتي
لأني أقدس حريتي لذا كبلوني
أخي يا أخي أيصفعني الخوف
لا يا أخي
أحبس ناري لا يا أخي
أنا لطخة العار في موطني!
إذا انهار عرضي ولم أصرخ
بحق الوطن بهذا القسم
أخي قد نذرت الكفاح العنيد لهذا الوطن
إلى أن أرى أصدقائي العبيد وهم طلقاء
يقولون ما مات حتى انتقم
لقد كان لهذه القصيدة وقعها وتأثيرها وذكرياتها في وجدان أحرار اليمن، لذلك ظلت تردد في كل وقت وحين حتى انطلقت شرارة الثورة ورحل المستعمر يجر أذيال الهزيمة والعار، وتحرر اليمني من القيد والتكبيل وزنازين المحتل ومشانقه.
وإذا كان أمان وثق لعدد من المواقف ولحظة التحرر فإن الشاعر عبدالرحيم سلام يعبر في قصيدة عن لحظة انطلاق الثورة من جبال ردفان، ويصور معارك الثوار وكفاحهم الباسل ضد الاحتلال البريطاني يقول:
ردفان قعر جحيم للغزاة، صحت
بالثأر تزأر و الثوار تستبق
تمحو جرائمهم من قرين تربتها
بفيد للشعب قسراً كل ماسرقوا
إن هذه القصائد عظيمة في غايتها وفي إبداعها عابقة بروح النضال والثورة والكفاح، لقد عبرت أصدق تعبير عن المشاعر النبيلة التي كانت تنبض بحب الوطن والنضال من أجله.
جرادة الشاعر العملاق
أما الشاعر محمد سعيد جرادة فقد ناضل بجسارة وقارع الاستعمار البريطاني باللسان والسنان، ففي أكثر من قصيدة شعرية فضح كل ألاعيب المحتل وظل يحشد الطاقات ويأجج المشاعر، ويحرض الأحرار في كل مناسبة ومع كل قضية وموقف وطني، فعندما عطلت حكومة الاحتلال البريطاني دستور مجلس عدن وخلقوا دستوراً (مسخاً) صرخ بقوة قائلا:
عطلوا الدستور في هذا البلـد فهو ثلــج ذاب إذ كــان جمــــد
فلقـــد شكلتمــــوه صـــــورة لا تثير العشق فــي قلب أحـــد
عـدن يا تـــاج بلقيس الــــذي بسنى السؤدد والمجـد اتقــــد
فادخــر حقـــدك للعقبـــى إذا عبــأ الشعــب قــــواه واتحــــد
وظل يقارع المستعمر ويحتقر وجوده بوطنية واعتزاز حيث نجده يقول:
أيا مــن خضعنا لسلطانكم سئمناكم واعترانا الضجر
كفاكـــم بقاء طويلاً أســـاء إلينا وأكرم منه السفــــــر
دعونا نشاهد شعاع الصباح وسحر الأصيل ونــور القمر
دعونا نظن بأنـــــــا أنـــاس دعونا نحس بأنــــا بشــــر
لقد استطاع الشاعر جرادة بحسه الوطني العالي ومشاعره الجياشة أن يصل إلى أعلى المراتب، وأن يتربع عرش الشعر والأدب في اليمن، وأثبت في الخمسينيات قدرته الفائقة في تهيئة الجماهير وتوجيهها لخوض نضالها العادل.
ولم يغفل الشاعر العملاق والمناضل الجسور محمد جرادة دور المرأة الوطني والنضالي، بل أشاد بانخراطها في خضم الصراع ضد المستعمر الغاصب، ففي قصيدته التي كتبها في عام 1963م (ثائرة من ردفان) يقول:
فاتنة منعمة كالزهرة المبتسمة
تقلدت رشاشها والمدية المعلمة
تقدمت موكبها لبؤة منتقمة
يا بنت ردفان تحيات القوافي الملهمة
إن الشاعر بهذه الكلمات يخط بأحرف من نور تاريخ المرأة اليمنية التي تقدمت الصفوف لصد المستعمر وتمريغ هيبته وحملت الرشاش لتدافع عن كرامتها وحريتها وسيادة وطنها وهي كالوردة المنعمة والدرة المصونة لكنها أبت إلا الكرامة والحرية لذلك استحقت أجل وأقدس تحية.
واحدية المصير
لقد شارك شعراء شمال الوطن إخوانهم في جنوب الوطن فرحة الانتصار والتحرر وأبدعوا قصائد خالدة، حيث أبدع شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني قصيدة دعا فيها أخيه في جنوب الوطن للتصدي للمستعمر البغيض ومواجهته واجتثاثه، حيث يقول:
أفِقْ وانطلقْ كالشعاعِ النّدي
وفجّرْ من الليلِ فجرَ الغدِ
وثِبْ يا ابنَ أمي وثوبَ القضا
على كلّ طاغٍ ومستعبدِ
وحطّمْ ألوهيَّة الظّالمينَ
وسيطّرة الغاصب المفسدِ
وقلْ للمضلّينَ باسمِ الهدى :
تواروْا فقدْ آنَ أنْ نهتدي
وهيهاتَ هيهات يبقى الشبابُ
جريح الإبا أو حبيسَ اليدِ
سيحيا الشبابُ ويُحيي الحمى
ويُفني عداة الغدِ الأسعدِ
ويبني بكفْيهِ عهداً جديداً
سنيّاً ومستقبلاً عسجدي
وعصراً من النورِ عدلَ اللَواء
طهور المنى أنِف المقصدِ
فسر يا ابن أمي إلى غايةٍ
سماوَّيةِ العهدِ والمعهد
إن هذا النداء الأخوي الصادق يوضح مدى تحمل هم المحتل الأجنبي والضيق به ذرعا، وتشير إلى مدى الفرحة بالنصر والاستقلال كما تجسد تلاحم الحركة الوطنية التحررية في شطري الوطن وتأكد واحدية المصير المشترك بين الشمال والجنوب من خلال إسناد أبطال الكفاح المسلح حتى تحقيق الاستقلال الوطني.
شاعر الثورة سحلول
وفي قصيدة لشاعر الثورة السبتمبرية صالح سحلول بعنوان (أول شــرارة في جــبال ردفــــان) قالها الشاعر بمناسبة انطلاق ثورة 14 اكتوبر 1963م في جنوب الوطن.. يقول:
ردفان يا مشعل الحرية الثاني
من بعد مشعل ورمز الحرية غمدان
أول رصاصة على الحكم البريطاني
تطلق وأول شرارة من جبال رفان
عاشت بلادي وعاشوا كل قحطاني
يحمل سلاحه وعاشت ثورة الشجعان
ثورة ستمتد من ردفاننا ساني
إلى المكلا إلى يافع إلى بيحان
والشعب ناقم على الغاصب وغضباني
من (كوريا)، (موريا)، حتى جبل شمسان
غداً سيطرد من أرضي كل نصراني
يدنس أرضي ويطلق ضدنا النيران
وينتهوا كل غاصب بالغصيباني
وكل خائن لشعبه والوطن قد خان
وينتهي كل مستوزر وسلطاني
والمستغلين والأذناب والأعوان
مهما صواريخ لندن تحرق اخواني
بطائرة هنتر أو بالهاون والميدان
مهما تَصَرَّف تَصَرُّف غير إنساني
غداً ستسحب ذيول الخزي والخسران
غداً بريطانيا تحرق بنيراني
مهما احرقت من مزارعنا أو الوديان
إلى أن يقول:
غداً بريطانيا تخضع لسلطاني
وتعترف بي وتعلم أننا إنسان
وهي قصيدة طويلة يقرن فيها الشاعر اليوم الاكتوبري المجيد باليوم السبتمبري الخالد (ردفان – عيبان) كما يوضح فيها حق اليمنيين في الحرية والاستقلال والعيش بكرامة وإنسانية.
لقد زخرت فترة المقاومة والثورة بالكثير من القصائد الوطنية والقومية على مساحة كبيرة من الوطن وتناقلتها الإذاعات وذاع صيتها في كل واد وجبل وسفح وسهل وتغنى بها أبناء اليمن الواحد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
إن أدب الثورة وفنها زاخر وعميق وبذلك يمكننا القول: إن القصيدة الشعرية قد أدت دوراً بارزا في غرس الروح الوطنية والقومية وفي الانتصار لكرامة الإنسان اليمني والتحرر من الاستعمار والاستبداد والظلم وأثارت الهمم، وأيقظت الشعور المتدفق بروح الحماس لجعل يوم انطلاق الثورة الأكتوبرية على الاستعمار البريطاني في الـ 14من اكتوبر 1963م يوماً خالدا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news