مع تباشير العام 1990 تعرفت على الدكتور سلطان الصريمي ،وجها لوجه، في منزل العزيز ابراهيم سعيد الشيباني في شارع هائل بصنعاء ، كان ذلك قبل الوحدة بقليل. لم أزل أتذكر حضوره للمقيل حاملا جزئيين من رواية “مدن الملح” للراحل الكبير عبد الرحمن منيف ،التي كانت حينها حديث المثقفين والأدباء، وكانت مناسبة لي لفتح حديث معه في أول لقاء، متسلحا بجملة أفكار “ساذجة” كونتها من قراءتي العجولة للعمل الروائي في تلك الفترة الباكرة .
قبل ذلك كنت أعرفه جيدا كمبدع كبير وشخصية وطنية عالية القيمة والدرجة، وقصائده التي غناها كبار الفنانين اليمنيين لم أزل اعتبرها ،حتى الآن، حصيلة مهمة في سنوات التكوين الأولى، فمع قصيدة “نشوان” – التي لحنها وغناها الراحل الكبير محمد مرشد ناجي – كنا نتماهى مع الحلم السياسي القادر على تغيير الواقع ، وغدت الأغنية أيقونة للفن المقاوم للاستبداد التخلف، ومع قصائده الكثيرة التي غناها الفنان عبد الباسط عبسي ، والتي بدأت مع” عمتي ” التي أعادت تلخيص موضوع الهجرة بوصفه موضوعاً اجتماعياً واقتصادي خالص بحساسية شعرية رائدة، وتواصلت على مدى أربعة عقود مع عشرات النصوص الخلاقة مثل “عروق الورد” و”باكر ذري” و ” خضبان” و ” ورود نيسان” و”وراعية” وغيرها من القصائد المغناة الجميلة ، صرنا نعي ماذا تعني المتلازمة الحية بين الإنسان والأرض . ومع قصيدة ” تَلِيم الحب في قلبي” التي لحنها وغناها الفنان ايوب طارش صرنا نبصر العاطفة وهي تتقطر شجناً شاهقاً.
عن تجربته الرائدة في كتابة النص الغنائي التي التمت في وقت مبكر من سنوات الثمانينيات في مجموعة أولى أسماها “هموم ايقاعية” كتبت بعد أكثر من عقد ونصف من لقائي الأول به ، اي عام 2006، عن الشيء الكثير الذي اضافته هذه التجربة لكتابة الشعر العامي في اليمن والتجديدات التي اقترحتها ، واعتبرت في القراءة التي حملت عنوان ( الصورة انزياحات لغوية وفنية) إن الصورة الشعرية في هذه التجربة تلقائية عفوية تتولد من أحشاء النص ولا تُقسر عليه، وإن القصيدة بشكل عام تجاوزت في بعض مراحلها حضور النص المكتوب خصيصا ليُغنى ، الى تلك النصوص التي قدمها كخلاصة لتجربة ورؤية وموقف ،ومع ذلك لم تعدم مثل هذه النصوص بصورها الباذخة من الوصول إلى نوتات الملحنين وحناجر المغنيين ، وكنت أعني قصيدته الطويلة ” أبجدية البحر والثورة” التي صدرت هي الأخرى في كتاب مستقل ، والتي ادتها فرقة الطريق العراقية بعدن.
وإذا طرقنا جزء سيروي آخر ومهم في مسيرته الرائدة ونعني الجزء النقابي ،الذي أعرفه شخصيا وتلازمت به ، وعلى وجه الخصوص عمله النقابي في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، سنرى كيف أنه حين انتخب أمينا عاما للاتحاد في المؤتمر العام الخامس ، الذي انعقد في عدن عام 1990، وكان الاتحاد يمر وقتها بلحظة مفصلية، بعد دخول البلاد مرحلة تاريخية جديدة بالوحدة، فحضر شاخصا وقويا اللاتوازن وإرث السياسة الثقيل في نشاط الاتحاد فغدا عنوانا للاحتقان الأول الذي عاشته أول مؤسسة وحدوية ، فلم يكن أمام أستاذنا من مفر سوى تقديم استقالته من موقعه ،حفاظا على تماسك الاتحاد واستقلاليته ، ليتفرغ للعمل السياسي ، الذي شحنته سنوات الوحدة الأولى بزخم غير معهود ، فترشح وفاز في أول انتخابات برلمانية عام 1993عن احدى دوائر مديرية الشمايتين في محافظة تعز ممثلا للحزب الاشتراكي اليمني، وظل ممثلا له عن هذه الدائرة في مجلس النواب حتى العام 1997 حين قاطع الحزب الانتخابات التالية، ولم يترشح امتثالا لقرار الحزب، الذي كان يشغل فيه موقعا قياديا متقدما.
صادف في تلك الفترة انعقاد المؤتمر العام السابع للاتحاد ، الذي عاد إليه في موقع الأمين المالي، دون أي غضاضة في تراتبية الموقع الأدنى الذي شغله بعد أن شغل قبله بسنوات سبع موقع الأمين العام، وظل في موقعه الجديد هذا حتى المؤتمر العام الثامن ، الذي انعقد في ابريل 2001، حيث عاد وتبوأ موقعا جديدا وهو نائبا للأمين العام ،وقبل تلك الفترة كان قد اسس “مركز الكناري للدراسات” وأصدر مجلة “دروب” الثقافية ،التي استقطبت الى منبرها عشرات الكتاب والأدباء، الذين وجدوا فيها سقفا مرتفعا لما يريدون قوله في القضايا الثقافية والسياسية وحقول الدراسات الإنسانية الأخرى.
منذ الأيام الأولى للتحضير للمؤتمر العام الثامن مطلع العام 2001صرت زميلا له في العمل، وتاليا في عضوية المجلس التنفيذي فصار بالنسبة لي المعلم والصديق النبيل. سافرنا كثيرا وعملنا سوية في لجان الاتحاد ، فكان يمدني بالطاقة والثبات ويفتح أمامي كل درب انسَّد أمامي، فخبراته السياسية الكبيرة، ووعيه الثقافي والمعرفي الأصيل أضافت إليه نباهة في قراءة الأشياء بعمق ، فاكتسبت شخصيته هذا البعد البسيط المحبب، القادرة على التأثير بكل من اقترب منها.
تعلمنا منه نحن أصدقاؤه كيف نتعامل مع صروف الوقت البائس وتفاهته بشيء من التعالي والنسيان، وحتى لا يكسرنا كان يقول جابهوه بسلاح السخرية الفتاك، فكان ولم يزل يرى في السخرية انعاشا للقلب والروح.
تكالبت عليه ضباع السياسة شمالا وجنوباً في مؤتمري الاتحاد التاسع 2005 والعاشر2010، لكنه ظل يحث الجميع على الحفاظ على هذه المؤسسة قوية ومستقلة، والنأي بها من استكلابات الساسة وأهواء صغارها البائسين، وحين غادر للعمل كمستشار اعلامي في سفارة اليمن في القاهرة في 2012 حمل معه أيضاً هم الاتحاد ، فكان كلما سنحت لنا فرصة للتواصل كان اول سؤال يبادرني به كيف الاتحاد وكيف زملائنا في الامانة والمجلس؟! فحِمْلهُ لِهَمِ الاتحاد هو في الاصل جزء من حمولته الثقيلة لِهَمِ الوطن الذي أقام تحت جلده منذ طفولته.
الوطن الذي كتَبَ له وعنه أجمل القصائد ،التي تغنت بها حناجر الفنانين شمالا وجنوبا،.. الوطن الذي اغرقه تجار السياسة والحروب بالدم والهتك ، فمن غير سلطان وأمثاله من سيحمل عنه في تعبه الآن القليل من حمولته الثقيلة، وكم سننتظر من الوقت حتى نَردَ القليل من الدَّين الذي علينا كيمنيين لشخص باسم وحجم الدكتور سلطان الصريمي الشاعر والرمز الاستثنائي.
من كتاب من هنا مرَّ الغناء دافئاً – شعراء ومطربون يمنيون- منشورات مواعيد 2023
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news