أحمد السلامي كاتبٌ وشاعرٌ وصحافيٌّ من اليمن، عمل مُحرِّرًا ثقافيًّا في عددٍ من الصحف والمجلَّات والمواقع الإلكترونيَّة. أسس وأدار موقع “عناوين ثقافية” الإلكتروني الذي يعنى بنشر نصوص وتفاعلات من المشهد الثقافي الإبداعي اليمني والعربي. وهو عضو اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين. صدرت له حديثًا رواية بعنوان: “أجواء مُباحة” عن دار الآداب اللبنانية، تضاف إلى قراءة نقدية بعنوان: “الكتابة الجديدة… هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن” (مركز عبادي للدراسات والنشر- 2003)، وخمس مجموعات شعرية: “كل الجهات عدن” (عناوين بوكس – 2023)، “قدِّيس خارج اللوحة” (دار مواعيد – 2023)، “دون أن ينتبه لذلك أحد” (مركز عبادي للدراسات والنشر – 2006)، “ارتباك الغريب” (وزارة الثقافة اليمنية- 2004)، “حياة بلا باب” (اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين- 2002).
هنا حوار معه:
السرد جزء معتاد من قراءاتنا ومن الحياة اليومية التي نحن شخوصها المنسيين والتائهين قبل أن نكتب عنها، ولطالما راودتني كتابة الرواية لأنني أحب الحكي وأروي لنفسي ولأصدقائي، وكلما تركت مكانًا أقمت فيه أخلف ورائي مكتبة تجد أكثر من ثلثيها روايات. فلما جاء الوقت المناسب وأدركت أنني قادر على البدء بإنجاز عمل روائي لا يتمحور حول التجارب الذاتية التي تستهوي أصحاب الأعمال الأولى انطلقت في الكتابة، واخترت تلك الحرب الصامتة غير المعلنة التي تمثلت في موجة غارات المسيّرات التي راح ضحيتها أبرياء في عدة قرى يمنية وصحارى بذريعة مكافحة الإرهاب، صحيح أن بعض تلك الحوادث كانت تستهدف مطلوبين لكن الممسكين بزمام توجيه المسيّرات كما يحدث الآن في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة كانوا لا يفكرون في أعداد الضحايا ولا في ما ستخلفه الغارات من عويل وخراب، ولأن تلك الحرب التي أصفها بالعمياء لم تأخذ حقها من التناول كعادة حروبنا ومآسينا المنسية في اليمن، آثرت أن يدور عملي الروائي الأول حولها. ونحن في النهاية أبناء واقعنا المرّ والمليء بالعذابات والحكايات التي لا تنتهي، سواء التي عاشها من سبقونا أو التي اكتملت بنا ولا نزال نتتبع مآلاتها التي تدهس حيواتنا حتى الآن بعبورها وبتجددها.
ما أسميتها بحروب الدرونز أو المسيّرات امتدت فترة أطول من ذلك لكن الرواية كانت معنية باستعادة ما جرت من استباحة لأجواء وسماء المدن والصحارى وقرى الصيادين التي تعرّضت لغارات ولم يكن أحد يعلم حينها أين ستضرب المسيّرة ولا من هو الهدف وكم سيسقط من الضحايا الذين كانوا أيضا من الأطفال والنساء والشيوخ. ومع ذلك سيجد القارئ أن الزمن في الرواية متحرك ويسرد ماضي الشخصيات بمرونة، وفي الرواية عودة إلى الماضي القريب في الفترة التي تلت قيام الجمهورية والإحباطات التي زحفت بفعل اليأس والركود وضعف التنمية وغياب الاستقرار وعدم رسوخ الدولة الحديثة في اليمن، بما لذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية ندفع ثمنها على دفعات كان من بينها استباحة أجواء البلاد، ومن هنا جاء عنوان الرواية “أجواء مباحة”.
لم تكن المهمة صعبة في هذا الجانب لأن الواقع في اليمن يشبه الخيال، وكل ما أتذكر من وقائع سمعت عنها أو عشتها أجدها كلها صالحة للتوظيف روائيًا بدون أن يشعر القارئ أنها أحداث واقعية، سواء على صعيد الأحداث العامة أو الشخصية. نحن في اليمن وعلى الرغم من اشتراطات الظرف الصعب على البشر أن يكونوا واقعيين على الدوام أكثر من غيرهم إلا أن الخيالي والسحري فاعل ومنصهر بالحياة اليومية، بالحروب وبالجغرافيا وبالسعي المعتاد في طلب الرزق، وبترويض الأحداث والحروب كما بترويض الطبيعة.
“ما كل هذه الحروب الغبية والانتقامية ضد الأبرياء والتي تستخدم فيها المسيّرات إلا امتداد لما تناولته في روايتي والتي أنجزتها قبل ثلاث سنوات لكنها صدرت أخيرًا”
اليمني معجون بواقع أقرب إلى الخيال، وهذا ما يخدم الروائي في بيئتنا، كل شيء متداخل كما هي الحال بين القبيلة والدولة والقانون والعرف، وهناك المرونة ولكن بالمعنى السلبي الذي يجعلك أمام مجتمع يتعايش مع سيولة الواقع وغرائبيته بدون أن يطلب شيئًا، إلى حدّ يجعلني أتصور أن الحديث عن غياب أو تغييب الدولة في اليمن ملمح من ملامح هذه المرونة التي ينعدم في ظلها الشعور بالحاجة إلى الدولة كما ينعدم الشعور بالأمل في أن يتمتع اليمني بحياة طبيعية، وكما تعلم نحن الآن في مرحلة يشكو الجميع من ضحالتها لكنهم لا يفعلون شيئا ينقلهم إلى مرحلة أخرى ربما لعدم الثقة في أن القادم سيكون أفضل.
كنت معنيًا أولًا بالفن وبإنتاج عمل روائي مهما كان موضوعه عليه أن يحافظ على أدبية النص، ولا أهتم بنقل رسائل مباشرة بالمعنى الأيديولوجي إنما قررت الالتفات روائيًا لفترة مأسوية أقسى ما فيها أن اليمني لم يكن يدرك ما الذي يجري حوله ولم يكن يعرف أن سلطات بلاده أباحت الأجواء ومنحت مسيّرات الغرباء ترخيصًا مفتوحًا لاستهداف النائمين خارج القانون وبأسلوب يجعل الضحايا مكشوفين وغير محميين بأي قانون محلي أو دولي.
لا أفضّل هذا التقسيم الحادّ بين رواية الحرب وما عداها لأن الإنسان هو محور الأدب في الحرب والسلم معًا، وبالتأكيد هناك رابط بين أحداث الرواية وحروب اليوم، وما كل هذه الحروب الغبية والانتقامية ضد الأبرياء والتي تستخدم فيها المسيّرات إلا امتداد لما تناولته في روايتي والتي أنجزتها قبل ثلاث سنوات لكنها صدرت أخيرًا. كانت حرب المسيّرات في اليمن قد بدأت منذ ما قبل 2007 وكأنها تمارين للقتل بواسطة هذه الآلات العمياء المدرّبة على حصد الأرواح من دون حساب، لأنها تنظر إلى البشر على هيئة أرقام وبقع حرارية كما في ألعاب الفيديو، ومن يدير هذه الآلات يتصور أنه في لعبة إلكترونية ولا يعبأ بكم قتيل يسقط في كل ضربة، ومن هنا صرنا نشهد ارتفاع العداد الذي يرصد ببرود أرقام القتلى، مع أحاديث متقطعة عن ضرورة إطعام الأحياء لكي ينالوا نصيبهم من الاستهداف الأعمى وهم غير جياع!.
وضعت لنفسي مهمة كتابة عمل روائي واخترت أن يقدّم نفسه للناشر بمعزل عني، لأن الناشرين اليمنيين أصدقاء شخصيون وأتوقع أن يجاملوني، بينما أردت أن يتحمس للرواية ناشر لا يعرفني ينظر إلى النص كما هو بعيدًا عن صاحبه، وهذا ما حدث بعد أن عرضت دار الآداب النص على لجنة القراءة لديها التي تبنّت الرواية وأصدرتها، ويوم الانتهاء من طباعتها كان العدوان على لبنان قد بدأ للتو، فتلقيت رسالة من الناشرة العزيزة رنا إدريس، مديرة دار الآداب، بدأتها قائلة: صباح المسيّرات.
مهمة الروائي أن يُنقّي الأحداث من طابعها الاعتيادي وأن يجعلها تمر بمرشح يحررها من اليومي المعتاد عبر لغته وصوره وما يستخدم من مجازات وما يصمم من مشاهد وشخصيات وأزمنة متداخلة، وما يقترح من حضور للمكان ومن تقنيات هي التي تجعل من كل رواية تكتسب طابعها الأدبي وتتحرر من كونها اتكاء على واقع أو على شريحة زمنية. والكتابة في النهاية هي نسج الاختلاف واكتشاف السحري والغامض في المعتاد الذي لا يرى فيه الآخرون إلا طبيعته الاعتيادية، بينما يتعمق الكاتب في استنطاق الأبعاد الأخرى للحدث والموقف مهما كان جذره واقعيًا.
القصيدة كما تعرف، وأنت شاعر، هي الومضة واللحظة البرق التي تعبر كالضوء الشفاف بطابعها التجريدي الذي يقول كل شيء بكلمات قليلة وبتفاصيل جوانية تُبقي على المعنى السهل في خزانة الروح. فيما الرواية تبوح بالتفاصيل وتبني جسورًا للمشاهد وتخلق حياة بديلة بوسع القارئ العيش فيها أثناء القراءة وأن يسترخي ويتقمص الأدوار ويسافر ويغرق وينجو مثل شخصيات العمل الروائي، ويولد في أزمنة ويفكر من داخل الأحداث وبمنطقها، وتستطيع الرواية كذلك أن تبرر لكاتبها الاستحواذ على أكثر من ذاكرة وأكثر من حياة.
هناك غزارة في الإنتاج بعيدًا عن الموقف من التفاوت في جودة الأعمال، أما التحدي فيبقى من وجهة نظري في التخلص من قياس جودة ما ينتج في الرواية اليمنية بنماذجها المحلية فقط، هذا خطأ فني وثقافي ونقدي، لأننا نكتب داخل ثقافة لغة واحدة هي العربية وينبغي الاتجاه نحو الحضور الإبداعي في هذا السياق الفسيح، أما الطابع المحلي فهو محور الاشتغال من حيث الموضوع إن شئت بينما التقنيات الفنية مشتركة في كل الجغرافيا بما فيها الرواية في الثقافات الأخرى، ولا أميل إلى وصفها بالعالمية لأن كل سرد هو بالضرورة محلي وعالمي في الوقت نفسه.
بعض الجوائز الهدف منها الحصول على مخطوطات لزيادة رصيد دار النشر من المطبوعات، وسواء كانت الجوائز الأدبية محلية أو إقليمية لها طابع التحفيز والتحريض وإذكاء الشعور لدى المبدع بجدوى الكتابة، ولكني أستغرب فقط الإعلان عن قوائم طويلة في جوائز محلية لا يزال عدد المتقدمين لها بالعشرات فتجد أن ما يقرب من نصف المتقدمين يصلون إلى القائمة الطويلة، والأجدر في هذه الحالة أن يتم الإعلان عن القائمة القصيرة مباشرة، إلى أن يصل عدد المتقدمين في المستقبل إلى رقم يبرر العبور بمرحلة القائمة الطويلة.
وسائل التواصل الاجتماعي حرّرت
المبدع من هيمنة الإعلام الرسمي
حرّرت وسائل التواصل الاجتماعي المبدع من هيمنة الإعلام الرسمي ومن وصايا المطبوعات وتفضيلاتها وحساباتها، وربطت الوسائل الجديدة الشاعر والكاتب باللحظة الراهنة وأصبح على اتصال بما يعتمل في الوجود من حوله، وعلى صلة بنظرائه داخل وخارج بلده، وأتاحت بروز نمط جديد من النصوص التي تكتب مباشرة عبر الإنترنت، وإن كانت لوسائل التواصل بعض المساوئ والفوضى إلا أن من اختبروا العزلة والكفاح من أجل نشر نصوصهم سيرون في هذه الفضاءات خدمة إيجابية لأنها تبني العلاقات وتسهّل الحوارات الأدبية وتجمع المتشابهين وتصقل التجارب وتبقي الشباب على اطّلاع بما يجري وتسهم في خلق صلة بين الأجيال الأدبية، وهناك من استفاد منها في ترميم وبناء علاقات واسعة النطاق تتجاوز المشهد المحلي.
الرواية اليمنية حاضرة عبر أسماء برزت وعقدت صلة بالقارئ والناقد العربي بحكم صدور أعمالها في دور نشر واسعة الانتشار وبحكم جودة أعمالها وتميزها. ويبقى الرهان على الجودة وحدها في المستقبل والكف عن الزهد الذي يجعل الكاتب اليمني يكتفي بالقارئ القريب ويقنع بالسعي إلى تجاوز السقف المحلي فقط.
المطلوب كذلك تجاوز عثرات التسويق والتعامل مع الكتاب والنص بالمزيد من الاحترافية والسعي للمشاركة في المعارض بأعمال تراهن على جودة المضمون والاعتناء بصناعة الكتاب من حيث الجوانب الفنية، وصولًا إلى التماهي الذي لا بد منه مع التسويق الإلكتروني وإيجاد صيغ رقمية قابلة للتصفح عبر التطبيقات التي أخذت نصيبًا لا بأس به من القراء وتتقدم كل عام في زيادة مساحة حضورها على حساب الكتاب التقليدي.
الانفتاح على القارئ العربي ضرورة أساسية وأميل إلى عدم التقوقع داخل الثقافة ذات المنحى المحلي، لأننا نكتب بلغة واحدة، ودائما ما أتخيل القارئ الآخر وأرى أن الكتابة التي تستحق أعلى الدرجات هي التي لا تتجاهل أثر التحولات الحديثة في تذويب المسافة بين مستويات التلقي المحلية والإقليمية والعالمية، بمعنى أن على الكاتب افتراض أن كل نص يكتبه من سرد أو شعر سيكون متاحا رغما عنه لهذه المستويات من القراءة، ولا سيما بعد أن سقطت ثنائية الهامش والمركز في عصر التواصل الاجتماعي المفتوح ومنصات القراءة الرقمية التي تجعل المتلقي يعيش لحظة واحدة مشتركة وذات مزاج نفسي وزمني محايث أينما كان. وهذا لا ينفي الطابع المحلي للخطاب وللمضمون، لكن السقف الفني للكتابة لا بد أن ينافس تحت سقف آخر لا حدود له سوى الجودة والاختلاف.
يبقى للشعر كوكبه ومداره الخاص الذي لا يغيب لأنه يتمظهر ويعلن عن نفسه في أشكال عديدة من القصيدة المتمهلة في سبر أغوار الصمت إلى الصورة السينمائية إلى الالتماعات المكتوبة في المشهد الروائي إلى إيقاع الألوان في اللوحة.
صحيح أن طباعة الأعمال الشعرية في حالة انكماش لكن الشعر هاجس إنساني فريد من نوعه يسافر عبر الأزمنة مثل خيوط الضوء ومثل الأكسجين. ويلزم الشعر في المشهد العربي أكثر من دار نشر تعوض هذا الفراغ بعد اتجاه الناشرين إلى السرد والاعتناء بالترجمات. وهنا يأتي دور المؤسسات، لكننا ندفع أيضًا ثمن التوجه نحو إحياء الشعر المنبري الذي حظي بجوائز ومسابقات جعلت قصيدة النثر متداولة بهمس ومكتفية بحضورها في صفحات الشعراء على فيسبوك. وأتوقع ظهور دور نشر متخصصة تكرّس نشاطها للشعر. لأن الفراغ في الساحة يحرّض على الابتكار.
ذهب جيلنا إلى خيارات فردية وهذا طبيعي لأن الإبداع فردي، خصوصًا أننا أصبحنا مثل الجزر المعزولة، بفعل ما حدث من تشظ في اليمن وشتات وانعكس على هذا الجيل الذي تعرّض بعض مبدعيه لاستغلال وإلى توظيف لمواهبهم لصالح توجهات محبطة وبعضها معادية للثقافة وحرية الإبداع، لكن الأديب في كل المراحل مع الأسف يمسي من أبرز الخاسرين، ولا يحتاجونه إلا لمقايضة موهبته بما يسد رمقه، لهذا السبب لم أندم على مغادرة اليمن والعمل بعيدًا عن أي شكل من أشكال الاستقطاب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news