في باحة الجامع الأموي الفسيحة في دمشق القديمة، وتحت راية علم الثورة السورية ذي النجوم الثلاث، صدحت حناجر آلاف السوريين الجمعة "واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد"، في مشهد لم يكن أحد ليتوقعه حتى الأمس القريب. وفي أول يوم جمعة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، استعادت دمشق مشهدية الاحتجاجات السلمية التي عمّت البلاد عام 2011 بعد انطلاق الثورة السورية، قبل أن تُقمع بالقوة وتتحول الى نزاع دام مزق سورية ودمّر مقدراتها وهجّر سكانها، متسبباً بمقتل أكثر من نصف مليون شخص.
كذلك شارك عشرات الآلاف في معظم المحافظات السورية في مظاهرات وتجمعات حاشدة للاحتفال بسقوط نظام بشار الأسد، حيث تدفقت الجموع بعد صلاة الجمعة إلى الساحات العامة وسط هتافات تهاجم النظام السابق وتستبشر بغد أفضل برغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
وفي يوم أطلق عليه "جمعة النصر"، احتشد الآلاف في ساحة الأمويين بالعاصمة دمشق مقابل التلفزيون الرسمي، قدموا من مختلف المناطق في العاصمة وريفها، إضافة إلى وفود من المحافظات القريبة مثل القنيطرة ودرعا والسويداء، رافعين علم الثورة السورية الأخضر، دون أية أعلام أخرى، مع مشاركة كثيفة لكل الفئات والمذاهب.
وعبّر المدرس أحمد الحسن عن فرحته بهذا الحشد الذي لم يسبق له مثيل في دمشق وسورية منذ عقود. وقال لـ"العربي الجديد" إنه "جرت العادة في السنوات الغابرة على سوق الناس والموظفين إلى التظاهر غصباً تأييداً للنظام، أما اليوم فإن الجميع يرغب بالمشاركة من تلقاء نفسه، وهو لا يكاد يصدق أنه عاش إلى زمن يستطيع فيه المشاركة في مظاهرة عن طيب خاطر، وليس مدفوعاً بالخوف".
ورصد مراسلو "العربي الجديد" توافد مئات آلاف السوريين إلى ساحة العاصي وسط مدينة حماة، وساحة الساعة وسط مدينة حمص، وسط سورية، وإلى ساحة سعد الله الجابري وسط مدينة حلب، شمالي البلاد، وإلى ساحة السبع بحرات وسط مدينة إدلب، وساحة الشيخ ضاهر وسط مدينة اللاذقية، شمال غربي سورية، وكذلك في مدينة طرطوس الساحلية، وساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، وساحة المسجد العمري وعدة ساحات في بلدات ومدن ريف محافظة درعا، جنوب البلاد.
وقال عمر الشامي، وهو من أهالي بلدة زاكية بريف دمشق الغربي، لـ "العربي الجديد": "اليوم هو اليوم الذي كنا ننتظره منذ 14 عاماً.. لا يوجد أحد في العالم اليوم يعيش نشوة الفرج كما يعيشها السوريون في ساحات الحرية.. أنا الآن أشارك في جمعة النصر ضمن ساحة الأمويين مع عشرات آلاف السوريين الذين تخلّصوا من ظلم عائلة الأسد وحكمه إلى الأبد".
وأضاف الشامي: "كنت مهجراً إلى الشمال السوري، ومع هروب نظام بشار الأسد المخلوع من العاصمة دمشق، عدت إليها في اليوم الثاني، كانت فرحتي لا توصف بذلك اليوم، ولكن الفرحة اليوم أجمل لأنها جمعت كل السوريين. هذا اليوم سوف يتم تخليده في سجلات التاريخ".
وقال علي البيطار المتحدر من مدينة حمص، لـ "العربي الجديد": "عدت للمدينة بعد التهجير عام 2014. اليوم نحتفل بجمعة النصر في ساحة الساعة وسط مدينة حمص، التي لها رمزيتها لكل سكان حمص، هنا ارتكبت واحدة من أبشع المجازر وهي مجزرة الساعة، كنت حينها طالباً في جامعة (البعث) جاؤوا في ساعات الصباح الباكر واستخدموا خراطيم الإطفاء لتنظيف الشوارع من دماء الشهداء. اليوم أنا أقف في ذات الساحة مع جموع من الناس الفرحين بتحقيق النصر على نظام الأسد، أكثر من 60 عاماً من حكم البعث و54 عاماً من حكم آل الأسد ولّت من دون رجعة. نهتف (يابي يابي.. يايابي .. بشار أكبر إرهابي، يا مو يامو يا يامو... بشار خلصت أيامو)، نهتف لحمص العدية حمص التي ضحت بكثير من شبانها في سبيل هذه الحرية وفي سبيل الوقوف هنا في جمعة النصر هذه".
وقال محمد السيد المتحدر من مدينة بنش، الذي شارك في الاحتفالات بساحة السبع بحرات في مدينة إدلب، لـ "العربي الجديد": "مشاعر مختلطة بين الفرح والفخر بنجاح ثورتنا، لقد انتظرنا هذه اللحظات مدة 14 عاماً. السوريون نجحوا في الوصول إلى حريتهم، أمامنا تحديات كبيرة لكن الأمل موجود"، مُؤكداً أن السوريين يمكنهم حماية مكاسب الثورة التي ضحوا من أجلها بالكثير وهم مصممون على إعادة بناء وطنهم بعد الحقبة الظلامية لآل الأسد.
واستبق قائد إدارة العمليات العسكرية في سورية أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) صلاة الجمعة بدعوة السوريين في مقطع فيديو على تطبيق "تيليغرام" إلى الخروج إلى الميادين للاحتفال بانتصار الثورة وبدء مرحلة بناء سورية، وظهر الشرع مرتدياً لأول مرة لباساً مدنياً بعدما اعتاد الظهور بالزي العسكري.
وقادت "هيئة تحرير الشام" التي يتزعّمها الشرع هجوماً عسكرياً ضد النظام، بدأ من إدلب يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وتمكنت خلال 11 يوماً من إسقاط نظام بشار الأسد في جميع أنحاء البلاد، معلنةً انتصار الثورة التي اندلعت بشكل سلمي ضد النظام عام 2011، وتحولت إلى حرب أهلية في السنوات التالية.
وأعلن خلال الأيام الأخيرة تشكيل حكومة انتقالية لمدة ثلاثة أشهر برئاسة محمد البشير، رئيس حكومة الإنقاذ التي أدارت شؤون السوريين في مدينة إدلب خلال سنوات الثورة. وفي اليوم التالي لمباشرتها أعمالها، حرصت الحكومة الانتقالية على مواصلة بعث رسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، مؤكدة أنها ستكون لجميع السوريين، وأن مهمتها مؤقتة ريثما يجرى البت في القضايا الدستورية، فيما بدأت الحياة اليومية تعود إلى طبيعتها.
وكان بعض الناشطين السوريين، وخاصة المقيمين خارج البلاد، قد عبّروا عن مخاوف من أن الشرع يحاول "استغلال الفرح الشعبي" بسقوط النظام سياسياً عبر تبني مظاهرات اليوم، واعتبارها تفويضاً له بالحكم، كما حدث في مصر من قبل. وحثت الكاتبة رشا عمران في حسابها على "فيسبوك" رجال الدين في خطبة الجمعة على الدعاء للشعب السوري بدل الدعاء لشخص أحمد الشرع. كذلك حثّت المحتفلين في الساحات بعدم رفع صوره، كما جرت العادة في العهد البائد.
غير أن مراسل "العربي الجديد" لم يرصد في ساحة الأمويين بدمشق رفع أية صور للشرع أو أية لافتات تخصّ فصيلاً ما في دمشق اليوم، بل رُفعت فقط أعلام الثورة السورية، لافتاً إلى تعليمات مشددة من جانب الإدارة السياسية في "هيئة تحرير الشام" بعدم رفع صور زعيمها أحمد الشرع.
ولاحظ ناشط، فضّل عدم الكشف عن اسمه، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه في المناطق التي كانت أصلاً تحت سلطة المعارضة قبل سقوط النظام لم ترفع أية صور للشرع، لكن ربما رفع البعض صوره في مناطق الساحل السوري التي كانت محسوبة على النظام السابق. وفي تلك المناطق، لوحظ اليوم انتشار ملحوظ لقوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة، ولعناصر الشرطة، بعد أيام من الفراغ الأمني أعقبت فرار بشار الأسد.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news