بلى ليس إلا صدى شجن حارق لا ندرك مدى اشتعالات حرقته، بكاء غير مُعرف من الكلمات المتوقدة، في القصائد الشعرية أو فقل في الدواوين الشعرية، شظايا مثخنة ببكاء الكلمات في النقد الأدبي في الأبعاد الفنية والموضوعية في الشعر، أطروحة في الشعر العامي، ومن أنين اليمن الجمعي حتى ثورته إلى ما وراء يومياته الأسبوعية (الثورة و26 سبتمبر) والتي صاحب بكاءنا فينا بكاء أعمدتها.
بحرقة أعيننا كنا ولا زلنا نقرأ المقالح بصوت مليء بالحزن تارة وثان يتقارب والأسى وثالث يترقرق في الهمس كي ينساب في امتداداته الحزن المقالحي، صوتًا وصورة كصدى لذلك الشجن الحارق والبكاء من الكلمات.
المقالح منذ نعومة أحاسيسه وريعان مشاعره ظل يبحث عن الأمان، والأمان فقط ليس في اليمن قبل أن يغادرها الى الفسطاط الذي حرم حكامها وكلابها (حسب تعبير المقالح) العشق على الفقراء وعلى الطلاب. بل ظل يبحث عن الأمان في حله وترحاله، وما مهادنته للسلطة وجماعات التفكير إلا مشتقة تفاضلية من ذلك البحث عن الأمان.
في مصر التي حمل اليها المقالح مأساة بلاد القات التي تضج بها الحقب، وجاءها قصيدة تبكي بحرفها المغترب، بعد أن وصل إليها – ملتحفًا براكين الغضب – حافي القدمين عاري الرأس بعد إن غادر سجن أمسه – المسجون في طول البلاد وعرضها.
لم يُخف المقالح شيئًا عن مصر من تفاصيل حياته التي تشرب ماءها من القِرب المصنوعة من جلد الماعز، هذه الحياة التي ترى في سفينة الصحراء طائرتها وترى بيتها الخشبي قصرًا من قصور ألف ليلة وليلة.
بعد أن أُخرجته من الفسطاط كلاب حاكمها آنذاك، حين صحا على صوت كلب. يخرج من أحذية كافور كما يقول:
وصحوت على صوت (الكلب)
الخارج من أحذية
يثقبها كافور إذا جن الليل
ويرسلها باسم السلطان
في صباح تلك الليلة التي شهدنا قراءة القصيدة بتفسير يقارب في بعض معانيه تأويلات تداعيات الليلة الأخيرة للمتنبي في مصر مسندين لها الحسرة المستدامة في أعماق وفضاءات مأساتها فينا وبقاءنا فيها.
لم يكن المقالح وحده ولم تك كتابات يديه وحدها صدى شجن حارق وبكاء من الكلمات، بل كان الوجود المقالحي هو أحد واهم مصادر هذه الكتابة الحارقة الاصداء والباكية الكلمات.
حين عاد مكرها إلى صنعاء قبل أوان عودته تذوق لزوجة قربه المرير من التي كانت له ذات يوم (صنعاء الحلم والميلاد) فأصبح حينئذ طعم العمر يتساوى في مرارته بعيدًا عن صنعاء وبعيدا عن مصر، هذا ما قالت دماء المقالح للأرض حين قال لها وداعًا لكنها لم تسمعه لا صوتًا ولا صدى:
لزج
ومرير طعم العمر بعيدًا عن صنعاء
ومرير طعم العمر بعيدًا عن مصر
قال دمي
للأرض وداعًا لم تسمع
كنت ممن تبكيهم في مذاكرة الثانوية العامة، مواجيد مغترب يهدهد مشاعره بأصداء ذلك الشجن الحارق بعودته لرؤية وطنه.
وطن النهار ومعبد الزمن
انا عائد لأراك يا وطني
وكنت أصغي إلى أعماق حواره مع أمه المستفهمة اياه:
أتعود يا طفلي كفى سفرًا
أكل النوى شمسي طوى جَلدي
هذه الأم واجهت أبنها بحقيقته التي يبني منها وفيها قصورا للوهم ويبدد أيامه فيها. وكأن الأم استمرت في تساؤلها حتى نفذ إلى مسامعنا بكاء كلماتها من وراء جُدر البيت الشعري:
وأنا بلا مأوى أتسمعني
أم أنا لكن بلا ولد.
كان لقائي بالشاعر عبدالعزيز المقالح في الصف الثالث الثانوي وكانت قصيدة العبور هي إحدى محفوظاتي. إلى جانب مبكياتي من مواجيد مغترب.
في الأيام والسنوات التي بعدها وجدتني في رحاب ديوان المقالح الصادر عن دار العودة.
بعدئذ كنت متداخلاً مع المقالح في ثوريته (الخروج من دوائر الساعة السليمانية) التي كنت ولا زلت أزعم انها الذروة الثورية التي وصلت إليها قصائد الدكتور المقالح، وأزعم ثانية أن دواوين ما بعد هذا الديوان اتخذت من التصوف وسبر الأعماق النفسية أفاقًا لها.
متخذة من كتب الأصدقاء، المدن، صنعاء، أمي، القرية متنفسًا لصدى شجن حارق ولبكاء كلماته.
أما كتاب الحرب الذي أفصح عنه المقالح في حواره مع انتصار السري، فصدى شجن الحارق وبكاء كلماته لا زال غائبًا حتى اللحظة، واتمنى ألا يظل مغيبًا.
على مقربة مني عام 1984 أحرق ديوان المقالح الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل، في ساحة كلية الآداب جامعة صنعاء، هذا الديوان الذي (كُفٍر بسبه) لم يقر له قرار بين كتبي، بل انه كان يغادرني دون عودة ويذهب مع زميل آخر، خمس نسخ أو أكثر غادرتني تباعًا.
على مقربة من (تداعيات الليلة الاخيرة للمتنبي مصر) تلك الليلة التي كانت جاثمه بسوادها وقلقها واختناقات أنفاسها على صدر الشاعر، الفيت نفسي مع المقالح مختنقا بها وخائفا اترقب معه مجيء الكلب في الليال التالية لهذه الليلة، وعدت معه بأشجان يمانية أخرى وكأن منفاه هو منفانا جميعًا.
في المنفى أحترقت عيني شجنًا
صار الدمع بعيني وطنًا
شربت عيني ماء الحز ن انفجرت
ومن مأرب الذي تكلم في دواوينه الأولى، نصطلي جذوة حاضرة من صدى شجن حارق وبكاء من كلمات:
أها الشجن المأربي
هذا حصاني
وشعري
وسيفي بعني بهم ساعة من لقاء الشجر.
آه كم أكلته البراغيث في هذا الديوان الثوري، وكم كانت الإقامة في وطن للضفادع، قاسية بعد ارتداء ثوب الحزن ولبس الشجن المر، للخروج من جلد الأيام.
كم هو الرحيل المباغت قاس، وليس سوى الموت الذي يصفه المقالح بأنه يخلع كل هذه القساوة ويعيد الإنسان إلى ضمير التراب:
نرتدي ثوب أحزاننا
نلبس الشجن المر
نخرج من جلد أيامنا
وانكساراتنا
من عيون الأحاديث
إن الإقامة في وطن للضفادع قاسية
والرحيل المباغت قاس
وليس سوى الموت يخلعنا
ويرجعنا لضمير التراب.
كم كانت رحلة العودة مريرة في صوت احتجاج العائد من رحلة الخوف مناديًا إياها:
يا صدر أمي
ليتني حجر على أبواب قريتنا
وليت الشعر في الوديان ماء أو حجر
في أوراق الجسد- الشعري للمقالح – العائد من الموت، نشكو مع قصائده غدر الأصدقاء والذين أضافوا إلى كاهله أعباء مضاعفه للأعباء التي حملتها دواوينه السابقة وهكذا أجدني أتحسس ظهري قبل أن افتح الديوان ملتفتًا إلى من عناهم ومتطلعًا (في وجوههم وجه البعض من اصدقائي)، في أغنية الرماد المهداة لصديقه الذي كان:
قبل أن ترفع الخنجر المتوغل في الصدر
دعني أراك
فإن دمي حين عانقه
شم في نصله مقطعًا منك
أدرك إيماءة للعناق القديم
وأدرك آثار رائحة للصداقة.
تَشكل عودة الشاعر الثانية من أطراف الأصابع مصدرًا حارقًا متجددًا لصدى شجن حارف يتواجد نصفه في قلب الشاعر هنا، والنصف الآخر يكون مع وجهه هناك..
كان قلبي هنا
حين كنت مقيمًا هناك
ومذ صار وجهي مقيمًا هنا
صار قلبي مقيمًا هناك
لم تكن البدايات الأولى مع ديوان المقالح سوى تسليات موجعه … افيء إلى قصائده لأقرأ بصوت اقرب للبكاء يتداخل مع بكائية (ثور في حلبه الصراع)، وأصعد في خيالي إلى الجبل المطل على قريتي فرارًا من الطوفان في (خطاب نوح) الذي كان أبعد مما احفظ عن طوفان نوح النبي. وكم وكم أرهقتني الوشحات الطوابير.
العن عمرو بن ميزيقا، اقرأ الرسائل الموجهة لسيف ابن ذي يزن، واننتظر عودة وضاح كي اتعاطف معه ومع روضته، اتخيل كيف سيقابلها وكيف سأخفف عنه آثار صدمته حين يرى أن وجه روضه قد أصابه تشوه الجدري وتقيحت ملامح رؤيتها.
إنها أصداء حارقة الشجن وبكاء من كلمات متجددة الدموع
سأختزل الكثير والمثير من علاقتي كقارئ لشعر الدكتور المقالح لأتوقف أمام هذا المقطع الذي يطلب فيه المقالح من مدثرته أن تدعه يرحل عن وطن بائس الأمس واليوم. تاركًا افق الغد من دونما اشارة إليه …
وكأن الزمن توقف عند يوم الوطن هذا الذي تموت العصافير فيه جوعًا، وتسمن فيه الذئاب.
دثّريني
دعيني أعانق في شغفٍ صحوة الأبدية
أرحل عن وطنٍ بائس الأمس واليوم
فيه تموت العصافير جوعًا وتسمن فيه الذئاب
وما كتبته يدي ليس إلاّ صدى شجنٍ حارقٍ
وبكاءٍ من الكلمات
على بلدٍ كنت أحسبه بلدًا
وعلى أمةٍ كنت أحسبها أمةً
ظِلُها كان يمتد من ماءِ تطوان
حتى سماءِ الخليجْ
اعتراف مختزل (لا عوج فيه) بأن كل ما كتبته يد الشاعر في مسيرته الكتابية عبارة عن صدى شجن حارق وبكاء من الكلمات.
على بلد كان يحسبه بلدًا
أمة كان يحسبها أمة
ظلها كان يمتد من ماء تطوان
حتى سماء الخليج
و ما نشهده الآن من تشظي الجسد اليمني، وتيه الأمة العربية (بقومتيها الكان ينتمي إليها) ويتطلع الى مستقبلها والتي كان ظلها من تطوان (المغرب) حتى سماء الخليج، هو ترجمة لهذه الأصداء الحارقة، ولبكاء غير مُعَرف من الكلمات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news